Saâd Ghrab - tolerance

في التسامح *

سعد غراب - 05 جوان 1995

قرّرت الجمعيّة العالميّة للأمم المتّحدة في ديسمبر 1993 اعتبار سنة 1995 « سنة عالميّة للتّسامح » وعهدت لمنظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلم والثّقافة (اليونسكو) بالتّشجيع على تنظيم أنشطة في مختلف أنحاء العالم تخدم هذا الغرض.

ولا بدّ من أن نعترف بأنّ مفهوم التّسامح في أبلغ معانيه أي كما يفهم الآن - هو مصطلح حديث ونخطئ إذا ما أردنا أن نجد مختلف أبعاده في تراثنا القديم.

ولا ينطبق هذا الحكم على تراثنا العربيّ الإسلاميّ فقط هو صالح لكلّ التّاريخ القديم وأقصى ما يمكن أن نجده هو بعض أمثلة من التّسامح في هذا التّراث أو ذاك وقد نجد في تراثنا لا بأس قد تجعله في منزلة محترمة من تراث الإنسانيّة فمصطلح « التّسامح » مثلا لا نجده في القرآن الكريم ولا السّنّة النّبويّة وإن وجدنا بعض مشتقّات مادّة « سمح » خاصّة في السّنّة النّبويّة في أحاديث متعلّقة بالتّعامل وبالبيوع بصفة أخصّ.

ومن التّعابير السّائدة والتي وردت في بعض الأحاديث تعبير « الحنفيّة السمحاء ».

وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما يمتّ إلى الحرّيّة الدّينيّة والمسؤوليّة الإنسانيّة وجدنا بذورا طيّبة أمكن لبعض المفكّرين في عصور ازدهار الحضارة العربيّة الإسلاميّة تطويرها ولكن وجدت أيضا في الغالب، وفي كثير من الأحيان بصورة أقوى، تيّارات داعية للتحجّر والانغلاق ولئن وجد مجال التّنوّع والاختلاف فإنّ شعارات الإقصاء والنّبذ والتّبديع والتّكفير كانت هي الغالبة.

ولئن بحثت كتب الملل والنّحل في الثّلاث وسبعين فرقة التي انقسمت إليها الأمّة الإسلاميّة واعتبرت أنّ اختلاف الأمّة رحمة فمعروف أنّ كلّ واحدة كانت تدّعي أنّها الفرقة النّاجية في الآخرة وتقوم بمجهودات كبيرة لكي تكون هي المهيمنة في الحياة العاجلة.

ولقد كان ذلك في الغالب بأقصى ما يمكن من طيب نيّة لأنّهم كانوا يرون من واجبهم أن يقودوا الآخرين إلى الجنّة بالسّلاسل إن لزم الأمر.

إنّ التّسامح في القديم أمر نسبيّ فمعروف مثلا أنّ تنظيم أهل الذمّة الذي كثيرا ما ينتقده بعض الدّارسين المحدثين واعتبروا أنّ فيه نزعة تمييزيّة وأنّه يجعل من بعض المواطنين مواطنين من درجة ثانية يعتبر تنظيما متطوّرا بالنّسبة إلى زمانه الذي كانت تعتبر فيه الحقيقة واحدة ولا يسمح للآخرين بمخالفتها.

وهذا النّقد ينطلق كما قلنا من معطيات حديثة وإن انطلقت بداياتها الواضحة من قرن الأنوار وتأكّدت مع مختلف إعلانات حقوق الإنسان وترسّخت في النّصف الثّاني من قرننا هذا. فمن المسلّم به الآن تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات بدون تمييز للجنس أو الدّين واقترن معنى التّسامح بحقّ الأقلّيّات في التّعبير الثّقافيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ والدّينيّ وإن كان التّسليم بذلك في مختلف أرجاء المعمورة ما زال يتطلّب مجهودات مكثّفة.

ومن الواضح أنّ المجتمعات تقيّم الآن بمقدار التّسامح والاحترام اللّذين تسمح بهما الأغلبيّة للأقلّيّة ولقد كان المجتمع الإسلاميّ أكثر تسامحا في فترات ازدهاره وقوّته من فترات تراجعه وتقهقره.

فالتّسامح هو مظهر قوّة لا مظهر ضعف بل هو جهاد متواصل تجاوز عند بعض المفكّرين الآن مظاهر اللّامبالاة والتّعالي إلى الاحترام الحقيقيّ للرّأي المخالف والاقتناع الكلّيّ بأنّه قد يعين الجميع على الاقتراب من الحقيقة.

وهذا الاقتناع بضرورة تركيز هذا المفهوم هو الذي جعل بعض المفكّرين الآن يرون أنّنا تجاوزنا المستوى الذّاتيّ الصّرف للتّسامح على المستوى الأخلاقيّ أو الدّينيّ وأنّه لا بدّ من تركيزه على مستوى أوسع فلا تسامح حقيقيّ بين الأفراد إذا لم يجد إطاره الأرحب في أنظمة سياسيّة تؤمن بالتّعدّديّة واحترام الرّأي المخالف وترتكز على مجتمع مدنيّ ترسّخت في صلبه آليّات تعديل الانحرافات. إلّا أنّ مبدأ التّسامح هذا الذي ركّزته مكاسب الحداثة وحقوق الإنسان يواجه تهديدات جمّة في مجتمعاتنا نتيجة استفحال مظاهر العنف والتّعصّب سواء كانت ناتجة عن توظيف فاحش للإسلام السّياسيّ أو استعلاء عرقيّ وعنصريّ ولعلّ اعتبار سنة 1995 سنة عالميّة للتّسامح هو إقرار بتفاقم عدم التّسامح فهل يكون ذلك بداية الوعي الحقيقيّ بوجوب محاربة مختلف مظاهره ؟


* تصدير لمجلّة دراسات أندلسيّة، عدد 14، محرّم 1416 - جوان 1995